الذات بين فوكو ولاكان

الذات بين فوكو ولاكان
أماني أبو رحمة.

في "تكنولوجيات الذات The technologies of the self"(1) يحدد فوكو أربعة أنواع من التكنولوجيات التي توظف بوصفها وسائل يمكن فهم الذات من خلالها: (1) تكنولوجيات الإنتاج، التي من خلالها ينتج المرء أو يغيير ما يصنعه و(2) تكنولوجيات نظم العلامة، مما يجعل من الممكن بالنسبة لنا خلق المعاني من خلال توظيف الإشارات والرموز، و(3) تكنولوجيات السلطة، التي تقوم بتشكيل والسيطرة على الفرد وفق أهداف معينة، و(4) تكنولوجيات الذات، التي من خلالها يمكن للفرد أن يحسن العقل والجسم والشعور من أجل تحقيق الحكمة والسعادة و قيم أخلاقية أخرى. ويرى فوكو كل هذه التكنولوجيات متداخلة ومتشابكة.
تؤثر تكنولوجيات السلطة، من خلال التابوهات الأخلاقية والاجتماعية، على سبيل المثال، على مفهوم الذات. هذا المفهوم في حد ذاته من الممكن جدا أن ننظر إليه بالتوافق مع الفكرة اللاكانية عن الذات بوصفها نتاج القانون.
 ولكن، في أثناء تقصيه عن جينيالوجيا رعاية الذات، فقد فوكو اهتمامه بفكرة الخطاب بوصفه المنظم والمهيكل للفرد، وانشغل، بدلاً من ذلك، بعلاقة الفرد بنفسه. تتمتع تكنولوجيات الذات بمكانة معينة في نظام التكنولوجيات، وهو ما يمثل الموضع الذي من خلاله يكون الفرد قادرا على صياغة مفهوم انتاجي عن الذات. يقول فوكو : "ربما كنت أصر كثيرا على تكنولوجيا الهيمنة والسلطة. ولكني الآن أكثر اهتماما بالتفاعل بين الذات والآخرين، وتكنولوجيات السيطرة الفردية، وصيغ العمل التي يمارسها الفرد على نفسه عن طريق تكنولوجيات الذات."
يحدد فوكو الذات من حيث أنها تسعى للمعرفة. ولكن هذا السعي لم ينظر اليه دائما بالطريقة ذاتها. بالنسبة لأرسطو، هناك صلة طبيعية بين الإثارة الحسية، والمتعة، والمعرفة، والحقيقة. الذات، عند أرسطو، هو وحدة واحدة (غير منقسمة) واكتشاف الحقيقة يصبح ممتعا جدا. تصبح المعرفة شيئاً يجب أن نسعى  إليه جاهدين لأنه يثري النفس.
وجهت  التعليمات الزاجرة والأوامر الأخلاقية  ـــ المتعلقة بالعناية بالذات وكيفة تشكيلها ــ تطور العناية بالذات ردحا طويلاً من الزمن. فالممارسات التي وضعت في أواخر العصور القديمة كانت محددة بهدف تحقيق حرية الجسد: حيث تم تطوير تكنولوجيات التقشف من أجل الفوز بالتحرر من حاجات الجسم. ومع ذلك، فقد ألقت الأوامر المتعلقة "بمعرفة" الذات بظلالها الكثيفة على العناية بالذات. وبهذه الطريقة، تشتت الرؤية وضلت البصيرة. فهناك طرق مختلفة لخلق "المعرفة"، وهناك أشكال مختلفة من الذات. ولكن، كانت هذه البصيرة  بالذات هي ما أعيد اكتشافه ــإلى حد ما ــ من قبل نيتشه. بالنسبة لنيتشه، فإن الذات هي شيء في حركة دائبة في حقل، حيث إرادة السلطة تحدد كل شيء: هنا، تكون الذات مساعدا لإرادة مخادعة تسعى لتحقيق مكاسب وللبقاء على قيد الحياة. أما مسألة "المعرفة" فقد تم إعادة تعريفها بوصفها مسألة التكنولوجيات؛ التكنولوجيات التي أنشئت لتعريف الحقيقة، ولإخفاء الحقيقة، ولخلق الحقيقة. وتخضع هذه التكنولوجيا لإرادة السلطة.
نقطة فوكو هي أن مفهوم الذات قد تطور تاريخيا، من خلال التجارب التي تسمح للذات أن تتغير. هذه هي الرؤية أو البصيرة التي لا بد من اكتشافها. فعندما جرى تطوير تكنولوجيات جديدة، فإن "رعاية الذات" قد جرى تطويرها أيضا.
على سبيل المثال، مثال يطرحه فوكو، "ارتبط فن الكتابة بشكل وثيق بالتأمل والإستبطان، من خلال كتابات ماركوس أوريليوس. الذي وضح كيف أن حرية جديدة للذات قد تتطور من خلال الفروق الدقيقة في الاستبطان: وبذلك تطورت خبرة خاصة جدا عن الذات. تسمح الكتابة بظهور حقل جديد كليا من الخبرات والإمكانات. فرعاية الذات لا تنطبق على الروح فقط، بل والجسد أيضا. وهو التقليد الذي تطور من ماركوس أوريليوس إلى نيتشه: لقد أصبح الوصف التفصيلي للغذاء وتفاعل الجسم مع المواد الغذائية جزءا مهما من التقليد الفلسفي في كتابة اليوميات. في هذا التقليد، وصفت تقانة كتابة المذكرات من حيث أنها تمنح التلاؤم بين نظرة الآخر والنظرة التي يقصدها المرء عن ذاته". وصفت تكنولوجيات الذات في نص فوكو، بوصفها شكلا من أشكال الجماليات aisthesis التي من خلالها أصبحت متعة الجسم أداة لتحقيق الذات. علاوة على ذلك، فهي عملية إظهارية exteriorization، حيث أصبحت العلامة المكتوبة  وسيلة  المرء لأن يظهر للآخرين فضلا عن ذاته.
في فكرته عن تكنولوجيات الذات، يقول فوكو إن الحقيقة هي شيء يمكنك أن تتعلم تحقيقه وإنجازه،  بدلاً من شيء تكتشفه. وهذا يعني تحولا في المنظور فيما يتعلق بتأويل الذات. الذات هي نتاجٌ جرى تنسيقه  خارج أعراف ومعايير المجتمع، ولكن يمكن أن تأخذ شكلها بالنسبة لهذه الأعراف والمعايير ضمن نماذج تحدد أيضا حريتها. بالنسبة لفوكو، فإن مسألة التكنولوجيات ترتبط ارتباطا وثيقا بالحاكمية (2). في نصه " عن حكومة العيش" يسأل فوكو : "كيف يمكن للحكومة في الثقافة المسيحية الغربية أن تطلب من أولئك الذين ينقادون لها ليس فقط أفعال الطاعة والخضوع، ولكن أيضا أفعال الحقيقة، مع شرط غريب، ليس مجرد قول الحقيقة، ولكن قول الحقيقة عن نفسه، وأخطائه، و رغباته، وحالة روحه... وهلم جرا؟ "
في النص، يحلل فوكو ممارسة الاعتراف الكنسي بوصفها جزءا لا يتجزأ من التراث المسيحي ــ ممارسة الإعتراف التي اعتبرها في تاريخ الجنسانية، قد تطورت في التحليل النفسي. ومع ذلك، فإن قضية الذات في التحليل النفسي ليس لديها الكثير لتفعله مع الإعتراف، مقارنة بالتحويل أو الإنقال[transference]: إن المحلل لا يستمع كثيرا إلى ما يقال، أو يعترف به، وإنما يسأل: "من الذي يتحدث" إنه السؤال الذي يتتبع البنية التي يكون  فيها الشخص نتاجا من نتائج القانون.
واذا ما أدركنا ( من الذي ) بوصفه لحظة معينة في الخطاب ـــ الذي تكون فيه الذات منقسمة ومزاحة ومزعزعة ــ فإنه سيكون دائما مستسلما لقانون، قانون هو بدوره نتاج رغبة  تتجلى في ظاهرة التحويل. والحال، إذن، أنه إذا كان فوكو يتحدث عن الذات كمنتج من الحاكمية، فإنها ستكون نتاج الخضوع، نتاج القوانين والأعراف التي تنتج الانقسامات والانزياحات التي تتبع كل محاولة لإعادة صياغة حالات الذات. ومع ذلك، فإن الأدلة التاريخية عند فوكو، التي تتحدث في صالح الذات هي الساحقة: انقسام الذات هو اشكالية التكنولوجيا والتطور، وليس ضرورة بنيوية.
عمل فوكو ولاكان اذا على ضوء افتراض أن هناك كمية محدودة من الحرية للذات المنقسمة؛ هناك القليل على الأقل. وعلاوة على ذلك، يشترك فوكو ولاكان في افتراض أن مفهوم التكنولوجيات يمكن توظيفه في فهم كيف يمكن إعادة هيكلة الذات فيما يتعلق بالقوانين والمعايير التي سوف تساعد في إنتاجها. والسؤال الذي لا يزال يتعين الإجابة عليه هو: هل هناك مفهوم تحويل عند فوكو؟
في كتابها Giving an Account of Oneself، تقول جوديث بتلر إن تقديم الذات يتورط دائما في تحويل. إنه ليس مجرد جانب من جوانب التحليل فحسب، وإنما من التفاعل البشري. الـ(أنا I) تخاطب (أنت a you )، وكلاهما (أنا وأنت) يتأثر في العملية. يغيير التحويل سؤال "من أنت؟" لأن ( أنت) لا يمكن أبداً أن تكون معروفة. إنها (أنت) المحلل النفسي وشيء أبعد، وهكذا يتم إرجاع السؤال إلى الذات؛ ليس ثمة (آخر) يمكنه الإجابة على هذا السؤال. وقضية  الآخر ليس متشابكة مع تشكيل الذات. بل أنها مطعونة من الخارج قبل أن يتم ظهور أي ذات. فالمشكلة الأولى في التحليل النفسي، إذن، ليست الإنفتاح على الغيرية.  إنها، بالأحرى، بناء (أنا) من غيرييات كثيرة.
من هذا المنظور يجب علينا النظر إلى نقد فوكو السلبي للتحليل النفسي. فمشكلة التحليل النفسي ليست اللاوعي أو المجهول. هي، بدلاً من ذلك، أن العلاج بالكلام يذيب أي احتمال لتشكيل الذات. وبالنسبة لفوكو، المسألة ليست رغبة الآخر، ولكن: "ماذا يمكنني أن أصبح؟" إنه في صياغة ذات، في إعادة التقاط امكانية وجود ذات لا تنقسم، بحيث يمكن استرداد الحرية.
هوامش:
1.       يوظف فوكو مفهومي التكنولوجيا technology والتقنية technique، والتي ترتبط ارتباطا وثيقا بأداء السلطة والعقلانيات السياسية المختلفة (انظر : تاريخ الجنسانية المجلد الأول : 141، والانضباط والمعاقبة: 26، ويجب الدفاع عن المجتمع: 246، 249،والامن والاقليم والسكان: 8). وبصفة عامة يمكن أن نحدد التكنولوجيا على أنها مجموعة من المهارات والممارسات والمعرفة التي هي أدوات لتحقيق غرض معين. في حين ان التقانة هي بعض من هذه المهارات المحددة التي تصل نحو الهدف. وعلى الصعيد ذاته يوظف فوكو أيضا فكرة آلية mechanism لتعيين تقانة معينة أو الإجراء الذي يجري بواسطته آثار سلطة معينة في الواقع (انظر يجب الدفاع عن المجتمع: 32-33). عندما يتم الجمع بين التكنولوجيات والتقنيات من أجل إنتاج آليات معينة غالبا ما يستخدم فوكومصطلح جهاز apparatus (جاهزيات dispositive ) للدلالة على الآلية بأكملها التي سخرت لإنتاج تأثيرات معينة (تاريخ الجنسانية، 55-56، 84، الانضباط والمعاقبة : 173،201-205).
2.       الحاكمية. في (الدولة والاقليم والسكان) يتبع فوكو منهج االجينيالوجيا في مقاربة مصطلحه الحاكمية. وينبغي أن لا يغيب عن أذهاننا بأن تعريفات فوكو لمفهوم الحاكمية متنوعة، وبالتالي قد يكون هناك تطبيقات مختلفة لهذا المفهوم. ومع ذلك، فإن المفهوم مهم هنا لأن فوكو يربطه في الغالب مع إشكالية السكان، وبالتالي مع السلطة الحيوية. مثلا في (الدولة والاقليم والسكان) يربط فوكو الحاكمية مع الليبرالية يقول: "أولا، من خلال الحاكمية أنا أفهم الفرقة التي شكلتها المؤسسة والإجراءات والتحليلات،والتفكير، والحسابات، والتكتيكات التي تسمح بممارسة هذه السلطة المحددة جدا، وإن كانت معقدة للغاية، السلطة التي يكون السكان هدفها، والاقتصاد السياسي شكلها الرئيسي للمعرفة، وأجهزة الأمن أداة فنية ضرورية لها". وفي مقابلة من عام 1984 يوسع فوكو المفهوم بقوله""أنا أقول أن" الحاكمية "تعني علاقة الذات بنفسها، وأقدم هذا الفهوم" الحاكمية "لتغطية مجموعة كاملة من الممارسات التي تشكل، وتحديد وتنظيم الاستراتيجيات التي يمكن للأفراد بكامل حريتهم استخدامها في التعامل مع بعضهم البعض. أولئك الذين يحاولون السيطرة، والتحديد، والحد من حرية الآخرين هم أنفسهم اأفراد أحرار يملكون تحت تصرفهم بعض الأدوات التي يمكن استخدامها للتحكم في الآخرين. وهكذا، فإن الأساس لكل هذا هو الحرية، العلاقة بين الذات و نفسها والعلاقة مع الآخر " انظر :. لذلك لا بد أن نضع في اعتبارنا أن الحاكمية ستكون مفهوما هاما وجها لوجه مع تقنيات الذات. ومع ذلك، في الدولة والاقليم والسكان وولادة السياسات الحيوية لا يزال فوكو أكثر تركيزا على مسألة كيف أن بعض الرجال يحكم الآخرين - وهنا فان السياسات الحيوية ستكون مجال معينا لتوجيه السلوك البشري.
3.        التحويل : أي العلاقة العاطفية التي تنشأ بين المريض والمحلل، الذي يقوم أثناء العلاج بدور الذين كانو يحيطون بالمريض في طفولته. ويتطور التحويل متخذاً عدة صور، كالحب والثقة والإعجاب( تحويل إيجابي). أو الكراهية والعدوان في التحويل السلبي، فيقوم المحلل في الوقت المناسب بتأويل المواقف التحويلية للمريض. ولا يجدي التحليل النفسي إلا مع الأشخاص القادرين على معاناة المواقف التحويلية.







تعليقات

المشاركات الشائعة